تقديم بقلم بن غولداكر

لا يمكن لممارسة الطب أن تستند فقط إلى سلطة الطبيب أو غيره من المعالجين، بل يجب على أي مريض أو مواطن توصف له معالجة ما، أو يسمع بادعاء طبي ما، أن يطرح على مُحَدِّثه سؤالاً بسيطاً هو “كيف تَعْرِف أنَّ تلك المعالجة مفيدة، أو أنَّ ذلك الادِّعاء صحيح؟”، ويهدف هذا الكتاب إلى تعريف جميع الناس بكيفية الإجابة على هذا السؤال المُحِقّ

في هذا الكتاب دعوة للمرضى ولكافة الناس للتحرك ولملاقاة أطبائهم في مُنْتَصَف الطريق؛ فقد حَدَثَ تَغَيُّرٌ ضَخْمٌ  في طريقة تعامل الأطباء وغيرهم من العاملين في الرعاية الصحية مع المرضى، إذ كان تدريب الأطباء على “مهارات التواصل” محصوراً حتى وقت قريب بكيفية إخبار الطبيب لمرضاه بأخبار سيئة مثل أنهم يموتون من السرطان، أما الآن فيتم تدريب الأطباء على كيفية العمل التعاوني مع المريض بهدف تحقيق حاصل صحي مثالي. لذلك فإن الفرصة صارت متاحة أمام أفضل ممارسة ممكنة للطب، ويمكن للمرضى لعب دور فعال في مناقشة وانتقاء المعالجات التي تناسبهم، إذا رغبوا بذلك

وبالطبع، فإن انجاز مثل هذا التقدم يستوجب أن يتفهم الجميع طرق معرفة ما إذا كانت المعالجة مفيدة، وطرق معرفة ما إذا كان للمعالجة أضراراً، وطرق الموازنة بين فوائد وأضرار المعالجة لتحديد احتمال الخطر المرافق لأي معالجة

من المحزن أن الأطباء قد يُقَصِّرون في هذا المجال، مثلهم في ذلك مثل أي شخص آخر، ومن المحزن أكثر أنه يوجد جيش ضخم مُجَنَّد لكي يضللنا. يضم هذا الجيش أولاً التاريخ الطبيعي للمرض، فمعظم الأمراض تتحسن وتسوء بشكل دوري أو جزافاً. لذلك فإن أي شيء نفعله عندما تكون الأعراض على أشدها قد يجعل المعالجة تبدو أكثر فعاليةً لأننا كنا سنتحسن على كل حال، مما يضعنا في طليعة جيش التضليل فنضلل أنفسنا. ثم يأتي ثانياً أَثَرُ الغُفْل (أي المعالجة المُوهِمة) الذي يمكن أن يضللنا جميعاً بشكل مماثل، فقد يتحسن بعض المرضى في بعض الحالات لمجرد أنهم تناولوا حبوباً مُوهِمة لا تحتوي على أية مكونات فعالة بسبب اعتقادهم بفعالية المعالجة التي تلقوها. وهنا يأتي دور البحث العلمي الذي يهدف أصلاً إلى التأكد من أن الطبيعة لم تُضَلِّلك فتجعلك تفكر بأنك تعرف شيئاً أنت فعلياً لا تعرفه. ولكن البحوث العلمية ليست متشابهة وهناك من يلوح بها مهدداً ومضللاً، فقد يكون البحث العلمي مُنحازاً بطرق عديدة فيعطي بشكل خاطئ ما يَعْتَقِد شخصٌ ما في مكانٍ ما أنه الجواب “الصحيح”. لذلك فإن الرسالة المفتاحية من هذا الكتاب هي مفهوم “الفحص العادل” غير المُنْحاز، فقد يُشَوِّه الانحيازُ براهينَ البحث العلمي نتيجة عدم الانتباه أحياناً أو نتيجة الانسياق مع بعض المُغريات في أحيان أخرى. من أشكال الانحياز أن يؤمن الأطباء والمرضى والأساتذة والممرضات والمعالجين المهنيين والمدراء بأن المعالجة التي وظفوا فيها كثيراً من طاقتهم الشخصية هي المعالجة الذهبية الحقيقية الوحيدة. وقد تلعب شركات الأدوية أيضاً دوراً في تشويه البراهين، فاحتمال الحصول على نتائج ايجابية لدواء ما يتضاعف أربع مرات عندما يكون البحث العلمي مُمَوَّلاً من الشركة المصنعة لذلك الدواء مقارنةً بالبحوث الممولة من مصادر مستقلة. وبالطبع فإن ذلك لا يعني أن شركات الأدوية متورطة بمؤامرة ضحلة، فقد أحرزت الصناعات الدوائية تقدماً ضخماً منقذاً للأرواح، ولكن هناك الكثير من الأموال في بعض البحوث. ولأسباب ستطلع عليها في هذا الكتاب، يتم تنفيذ 90% من التجارب الدوائية من قبل شركات الأدوية مما قد يشكل مشكلة، إذ تبلغ تكلفة طرح دواء جديد في الأسواق حوالي 800 مليون دولار، ويصرف معظم هذا المبلغ قبل وصول الدواء إلى السوق، فإذا تبين أن ذلك الدواء ليس جيداً تكون الأموال قد ضاعت، مما قد يجعل من العسير تَبَنّي بعض مِثاليات الفحص العادل 1

يمكن تشويه براهين البحث العلمي وجعلها مضللة أيضاً عن طريق الانحياز في طريقة التبليغ عن نتائج البحوث، فَيُبَلَّغ فقط عن جزء من الحقائق والأرقام، وتُلَمَّع النواقص والعيوب، وتُعْرَضْ فقط البراهين التي تمنح معالجةً ما صفات مرغوبة. وتُضَخِّم الثقافة العامة ووسائل الإعلام هذا التضليل بسبب رغبتنا المفهومة بمعجزات الشفاء، فقد تتصدرُ نتائجُ البحث العلمي العناوينَ وتُوصف بوابل من الكلمات الطنانة مثل “شفاء” و”معجزة” و”أمل”، حتى لو كانت تلك النتائج متواضعة، ودون أن يكلف الصحفي نفسه عناء تدقيق فحواها 2

لا يمكن لهذا الكم الهائل من المعلومات المُشَوَّهَة إلا أن يكون مسيئاً لكثير من الناس الذين يرغبون بالسيطرة على حياتهم وبالمساهمة باتخاذ قرارات تتعلق برعايتهم الصحية، ويمكن توضيح جسامة هذه الإساءة بأمثلة عديدة تتناول معالجات متنوعة منها بعض الأدوية، ومن أكبر هذه الأمثلة الدامغة الحديثة الطريقة التي قدمت بها وسائل الاعلام الدواء هيرسبتين

على أنه المعجزة العلاجية الشافية لسرطان الثدي 3

يتسبب المتحمسون لترويج معالجة ما، وأصدقائهم في وسائل الاعلام، أحياناً في تضخيم الأذى نتيجة تحديهم للبراهين المُعاكسة لآرائهم واستخفافهم بمجرد مقدرة عامة الناس على فهم كيفية التعرف على ما إذا كان شيئاً ما مفيداً لنا، أو ضاراً بنا. فحبوب السكر الهوميوباثية، مثلاً، لا تختلف عن حبوب السكر المُوهِمَة عندما تقارن بها باستخدام أكثر الفحوص عدالةً، ولكن عند مواجهة الهوميوباثيون بهذا البرهان يجادلون بأن حبوبهم، منفردةً من بين كل الحبوب، غير قابلة للفحص لأسباب خفية، وأنه يوجد غلط مع مجمل الاعتقاد بإجراء المقارنة. وقد يلجأ السياسيون إلى نفس النوع من المرافعة الدفاعية الخاصة عندما يُواجَهون ببراهين على فشل برنامجهم التثقيفي للوقاية من الحمل عند القاصر. أما الحقيقة التي يبينها هذا الكتاب فهي أنه يمكن إجراء فحص عادل شفاف لأي ادعاء بأن لتداخل ما تأثيراً 4

.

قد يبلغ استخفاف تشويه البراهين بفهم عامة الناس مبلغاً أكبر، فمثلاً، بَيَّنَت مراجعة منهجية حديثة لأكثر الفحوص عدالةً وبعداً عن الانحياز أنه لا يوجد برهان على أن تناول حبوب فيتامينات مضادة للأكسدة قد يطيل الحياة (بل إنه ربما يُقَصِّرها!)، والمراجعة المنهجية هي نوع من التلخيص يتبع قواعد واضحة تحدد أمكنة البحث عن البراهين، وطبيعة البراهين التي يمكن اشتمالها، وكيفية تقييم نوعية البراهين – كما هو مشروح بشكل جميل في هذا الكتاب. ولكن عندما تعطي المراجعات المنهجية نتيجة تتحدى ادعاءات شركات انتاج حبوب مضادات الأكسدة، تمتلئ الجرائد والمجلات بانتقادات زائفة تجادل بأنه قد تم تجاهل البراهين الداعمة لمنتجاتها بشكل مقصود، وبأن الدراسات التي اشتملتها المراجعة المنهجية كانت مُنتقاة بسبب الولاء السياسي أو الفساد الصريح أو غيره من الأسباب5. وهذه مواقف مشؤومة لأن فكرة المراجعة المنهجية – أي النظرة الشمولية للبراهين – هي ببساطة أحد أهم الابتكارات الطبية في السنوات الثلاثين الماضية، ويمكن للصحفيين ولشركات الأدوية إِحْداثُ أذىً عظيماً في دفاعهم عن زاويتهم الصغيرة في سوق المفرّق، وفي محاربتهم لاطلاع الناس على فكرة المراجعة المنهجية. وذلك هو المحكّ في هذا الكتاب الذي تتوافر أسباب كثيرة لقراءته؛ فهو على الأقل سَيُنير دربكَ عند اتخاذ قرارات تتعلق بصحتك. أما إذا كنت تعمل بالطب فإن هذا الكتاب يتعالى عن أي مصدر آخر لتعلم مبادئ الطبّ المُسْنَد بالبراهين. كما يزيد هذا الكتاب أيضاً فهمَ الناس على المستوى الشعبي لأهمية ولكيفية إجراء المقارنات العادلة الهادفة إلى معرفة ما إذا كانت معالجة ما أفضل من غيرها، وربما شَجَّعَ ذلك عامة الناس على تنظيم حملات لزيادة مساهمتهم في تخفيف الغموض المحيط بالمعالجات التي تهمهم، بدلاً من أن يستمر تَخَوُّفُهُم من البحث العلمي

يبقى هنالك سبب أخير لقراءة هذا الكتاب؛ فهو يعلمك حِيَلَ تجارة الطب بشكل ممتع وجميل وذكي من خلال تركيز انساني على مشاكل حقيقية، وذلك بسبب خبرة ومعرفة وتعاطف مؤلفيه. فللطب صِلَةٌ بمعاناة وبموت البشر، ولكنه يتأثر بالهشاشة البشرية المتأصلة في الباحثين وفي متخذي القرارات وبتبديل آرائهم، ومن النادر أن يُجْعَلَ هذا الجانب من العلم متاحاً لكل الناس

يتنقل مؤلفو هذا الكتاب بِحُرِّيَة بين أبحاث أكاديمية جادَّة وبين زوايا عابرة في الأدب الطبي ليكشفوا لآلئ مدفونة تحت الأوراق الأكاديمية والتعليقات والسير الذاتية والتعليقات العارضة. لذلك فإنه يجب توفير هذا الكتاب في كل مدرسة، وفي كل غرف الانتظار في كل العيادات الطبية. وإلى أن يتم ذلك، ها هو الآن بين يديك فاقرأه

بن جولداكر – آب 2011