ترحيب

شهدت ممارسة الطب في العقود الثلاثة الأخيرة تطوراً جذرياً نشأ من فكرة المراجعة المنهجية لبراهين البحث العلمي الطبي، ومن التنبه إلى أن الممارسة الطبية يجب أن تكون دائماً مسندةً ببراهين بحثية صالحة ومتينة.
بينت المراجعات المنهجية، لاسيما مراجعات كوكران المنهجية، أن كثيراً من الممارسات التي اعتدنا عليها، وكثيراً من المعالجات التي نصفها لمرضانا، غير مدروسة تجريبياً وغير مسندة ببراهين مقنعة، بل إننا مازلنا نستخدم معالجات تتوافر براهين على أنها ضارة. يقدم هذا الكتاب أمثلةً عديدة على مثل هذه المعالجات بغية الترويج لتطبيق أفضل البراهين المتوافرة في رعاية المرضى وفي اتخاذ القرارات السياسية الصحية. ونضرب هنا مثلاً محلياً بخبر نشرته إحدى أكثر الصحف السورية شعبيةً ولم ينتبه له معظم الناس، ومر عليه البعض مرور الكرام، رغم أهميته الكبرى لصحة وسلامة أطفالنا جميعاً.

فحوى الخبر أن وزارة الصحة قررت سحب أدوية الأطفال المضادة للرشح والاحتقان والحساسية بناءً على توصية من منظمة الصحة العالمية، وذلك بسبب التأثيرات الجانبية لتلك الأدوية. وتساءلت الصحيفة عن سبب عدم اختبار المنتجات الدوائية قبل طرحها في الأسواق وإعطائها للأطفال؛ وهذا تساؤل مشروع يتوجب توجيهه إلى كافة سلطات الرقابة الدوائية في مختلف أرجاء العالم. أما إذا فكر أي منا بمحاولة إيجاد جواب لهذا التساؤل، فالمعلومات متوفرة ويسهل الوصول إليها عبر الانترنت.

يعطي البحث في الانترنت باستخدام جوجل عن معلومات تتعلق باستخدام مضادات الاحتقان للأطفال حوالي ثلاثة ملايين مصدر للمعلومات. ويبين التفحص السريع لبعضها أن الكثير منها يقدم معلومات غير مسندة ببراهين بحثية، بل إن بعضها يتضمن معلومات مُضَلِّلة. فموقع الدكتور سيرز مثلاً، وهو

welcome01

مشهور عالمياً ويظهر على عدة أقنية تلفزيونية عربية وأجنبية، يقول: “تقول الكتب بأن مضادات الاحتقان آمنة للاستخدام عند الرضع الذين تبلغ أعمارهم ثلاثة أشهر أو أكثر”1. ولكن يلفت بعض تلك المواقع النظر إلى أن إدارة الغذاء والدواء الأمريكية قد أصدرت توصية بعدم استخدام مضادات الاحتقان للأطفال دون عمر السنتين، وبعدم استخدام مضادات الهستامين للأطفال دون عمر ست سنوات2. بنيت هذه التوصية على تقارير تفيد بأن استخدام هذه الأدوية قد أدى إلى وفاة عشرات الأطفال، كما أدى إلى مضاعفات تطلبت قبول مئات الأطفال في المشافي بشكل اسعافي، وقد لزم إدخال بعضهم أقسام العناية المشددة ووضعهم على التهوية الآلية3 4 5.

ولكن، هل كان من الضروري انتظار تأذي ووفاة الأطفال لكي يتنبه العالم لمخاطر هذه الأدوية المتوافرة في الأسواق منذ حوالي مئة سنة؟ وهل تكفي هذه الطريقة في تحديد التأثيرات الجانبية للمعالجات للإجابة على تساؤل الصحيفة؟

الجواب هو النفي؛ فالمعالجات يجب أن تفحص قبل البدء باستخدامها، وهذه قاعدة تَنَبَّه لها الأطباء منذ زمن سحيق. فقد فحص الرازي مثلاً فعالية الفصد (الحجامة) في معالجة التهاب السحايا عن طريق المقارنة بين مجموعتين من المرضى فَصَدَ مجموعة منهم وترك مجموعة ثانية بدون فصد. وقد تم تطوير طريقة فحص المعالجات هذه لتصير عادلةً فتقارن مجموعتين متشابهتين من المرضى (انظر مقارنة الند بالند ص 110) وذلك باستخدام التعيين العشوائي للمرضى في مجموعتي المقارنة (انظر ص 114)، مع استخدام التعمية أحياناً (انظر ص 121). يطلق على طريقة الفحص العادل هذه اسم “تجربة سريرية معشاة”.

يصف أبو بكر محمد بن زكريا الرازي (251-313 هجري 856-925 ميلادي) في كتابه "الحاوي في الطب" علامات تتوافق مع تشخيص التهاب السحايا، ثم ينصح طلابه قائلاً: "فإن رأيت هذه العلامات فتقدم في الفصد فاني قد خلصت جماعة به وتركت متعمداً جماعة".

يصف أبو بكر محمد بن زكريا الرازي (251-313 هجري 856-925 ميلادي) في كتابه “الحاوي في الطب” علامات تتوافق مع تشخيص التهاب السحايا، ثم ينصح طلابه قائلاً: “فإن رأيت هذه العلامات فتقدم في الفصد فاني قد خلصت جماعة به وتركت متعمداً جماعة”.

لو أجريت مثل هذه التجارب قبل ترخيص واستعمال مضادات الاحتقان ومضادات الهستامين لأمكن تجنب إيذاء وقتل الأطفال بهذه الأدوية. ولكن مازالت هذه الأدوية توصف للأطفال منذ ما يقارب المئة سنة دون توافر أية براهين على فائدتها. ويزداد الأمر سوءً عند اكتشاف وجود تجارب سريرية معشاة تبين أنه ليس لمضادات الاحتقان ومضادات الهستامين أي فائدة عند الأطفال، وإن لهذه الأدوية تأثيرات جانبية مزعجة وقد تكون خطيرة6 7. ولكن لم يتنبه الأطباء وسلطات الرقابة الدوائية لنتائج هذه التجارب التي أجريت قبل سنوات طويلة لأن ممارسة الأطباء وتوصيات سلطات الرقابة الدوائية تبنى عادةً على خبرة شخصية محدودة أو على اتباع عادات ونصائح غير مسندة بالبراهين.
تعتمد الممارسة والتوصيات المسندة بالبراهين على كشف أفضل البراهين المتوافرة حول فائدة وأضرار العلاج عن طريق المراجعة المنهجية لكل البحوث ذات الصلة، مهما كان مكان وزمان ولغة نشرها. وأفضل أنواع المراجعات المنهجية مراجعات كوكران المنهجية لأسباب عديدة (انظر موقع رابطة الطب المسند بالبراهين http://www.a4ebm.org/)، ويتبيّن من هذه المراجعات أن مضادات الاحتقان ومضادات الهستامين لا تفيد بل تؤذي الأطفال المصابين بالرشح8 أو بالتهاب الأذن المصلي9 أو بالتهاب الجيوب10، وهذه هي البراهين التي قادت منظمة الصحة العالمية إلى التوصية بسحب هذه الأدوية.
في هذا الكتاب رسالة بسيطة تنصح بعدم استخدام المعالجات إلا إذا كانت مجربة ومفحوصة فحصاً عادلاً. وهذه الرسالة موجهة ليس فقط إلى الأطباء والسلطات الصحية بل أيضاً إلى كل مواطن يهتم بصحته. وبالطبع فإن ذلك يتطلب تثقيف الناس بكيفية ايجاد وفهم البراهين، وذلك ما يشرحه هذا الكتاب بسلاسة.
يستخدم هذا الكتاب لتعليم مبادئ المراجعة المنهجية والطب المسند بالبراهين، ويعتمد مرجعاً علمياً في كافة الاختصاصات الطبية في دول عديدة.
د. محمد أديب العسالي – دمشق، كانون الثاني 2013
المراجع:

  1. Ask Dr Sears (http://www.askdrsears.com)
  2. FDA warns of giving children cough, cold meds.
  3. Schaefer MK et al. Adverse Events From Cough and Cold Medications in Children. Pediatrics. 2008;121:783-787
  4. Centers for Disease Control and Prevention. Infant deaths associated with cough and cold medications: two states, 2005. MMWR Morb Mortal Wkly Rep. 2007;56:1- 4
  5. Sharfstein JM et al. Petition to the FDA: March 2007
  6. Clemens CJ et al. Is an antihistamine-decongestant combination effective in temporarily relieving symptoms of the common cold in preschool children? J Pediatr. 1997;130:463-6.
  7. Hutton N et al. Effectiveness of an antihistamine-decongestant combination for young children with the common cold: a randomized, controlled clinical trial. J Pediatr. 1991;118:125-30.
  8. Coleman C, Moore M. Decongestants and antihistamines for acute otitis media in children. Cochrane Database Syst Rev. 2011;16:CD001727.
  9. Griffin G, Flynn CA. Antihistamines and/or decongestants for otitis media with effusion (OME) in children. Cochrane Database Syst Rev. 2011; 9:CD003423.
  10. Shaikh N, Wald ER, Pi M. Decongestants, antihistamines and nasal irrigation for acute sinusitis in children. Cochrane Database Syst Rev. 2010; 12:CD007909

أهلاً وسهلاً

قد تستفيد من هذا الموقع في

  1. 1. الاطلاع على سبب أهمية فحص المعالجات فحصاً دقيقاً
  2. 2. تمييز البحوث الموثوقة
  3. 3. فهم ما يمكنك عمله للمساعدة في تأكيد أن البحوث أقرب إليك وإلى الآخرين

Iain Chalmersاستمع إلى تقديم إيان تشالمرز (3 دقائق و 20 ثانية)


شاهد فيديو التعريف للإطلاع على معلومات تقنية

يحتوي هذا الموقع على النص الكامل للطبعة الثانية من كتاب فحص المعالجات. ويحتوي أيضاً على روابط إلى مصادر إضافية تم اقتراحها من قبل المؤلفين ومن قبلك، وتساهم في شرح وتوضيح مبادئ ورسائل الكتاب.

يحتوي هذا القسم التعريفي تفاصيل إضافية حول سبب تأسيسنا لهذا الموقع، وكيفية استخدامه، ومن يديره