الجراحة المُشَوِّهَة

كانت الجراحة هي العلاج الرئيس لسرطان الثدي حتى منتصف القرن العشرين استناداً إلى الاعتقاد بأن السرطان يتطور ببطء وبشكل منتظم؛ فينتقل في المرحلة الأولى من مكان الورم في الثدي إلى العُقْد اللِمْفِيَّة المحلية في الإبط مثلاً، مما قاد إلى الاستنتاج بأن الجراحة الفورية والجذرية هي أفضل الطرق لإيقاف انتشار السرطان؛ لذلك فقد كانت المعالجة المفضلة هي الجراحة “الموضعية” الشاملة، أي التداخل الجراحي على الثدي وما حوله، ورغم وصف تلك الجراحة بأنها “موضعية” فإنها كانت أي شيء عدا ذلك لأنها اشتملت على استئصال جذري للثدي ولما حوله، بما في ذلك إزالة أجزاء كبيرة من عضل الصدر ومن العُقَدُ اللِّمْفِيَّةُ الإِبْطِيَّة

ولكن، لاحظ بعض جراحي سرطان الثدي النبيهين أن معدل الوفيات بسرطان الثدي لم يُبْدِ انخفاضاً رغم تزايد التشويه الناتج عن تلك العمليات، واقترحوا فرضيةً مختلفة تقول بأن سرطان الثدي لا ينتشر من الثدي بشكل منتظم عبر العُقَدُ اللِّمْفِيَّةُ المجاورة، بل إنه مرض جهازي (أي مُنْتَشِر) منذ البدء. بعبارة أخرى، استنتج أولئك الجراحون أن خلايا السرطان لابد من أن تكون موجودة أصلاً في أماكن أخرى من الجسم لحظة كشف الكتلة في الثدي، وأسفرت طريقة التفكير الجديدة هذه عن تطوير طريقتين جديدتين لعلاج سرطان الثدي؛ عرفت الأولى باسم “جراحة الكتلة” أي استئصال كتلة الورم مع هامش من النسج السليمة المحيطة بها، إضافةً إلى معالجة شعاعية، وأحياناً معالجة كيماوية، على أمل أن ذلك سيكون ألطف على المرأة وربما كانت له نفس فعالية الجراحة الجذرية. أما الطريقة الثانية فاعتمدت مفهوم “المعالجة الجهازية” أي معالجة تشكل أو تطور الخلايا السرطانية في أرجاء أخرى من الجسم

واجهت محاولات المقارنة بين جراحة الكتلة وبين الجراحة الجذرية مقاومة ضخمة لأن بعض الأطباء كانوا شديدي التَعَصُّبْ لإحدى الطريقتين بينما كان أطباء آخرون شديدي التَعَصُّبْ للطريقة الثانية، مما أسفر عن تأخير كبير في التوصل إلى براهين حاسمة للجزم بما لطريقة المعالجة الجديدة وبما عليها مقارنةً بطريقة المعالجة القديمة. ولكن، ورغم كل هذه الصعوبات، ظهرت أخيراً تحديات لتلك المبالغات الجراحية من قبل جراحين لم يرغبوا بمتابعة إجراء عمليات مشكوك بفوائدها، وأيضاً من قبل مريضات جريئات رفضن التعرض لعمليات جراحية مشوهة؛ ففي منتصف خمسينيات القرن العشرين قاد الجراح الأمريكي جورج كرايل المسيرة عن طريق إخراج  القضية إلى الرأي العام معبراً عن مخاوفه المتعلقة بمفهوم “المزيد أفضل”، فتَوَجَّه إلى الأطباء بمقالة في مجلة لايف المشهورة يناشدهم فيها أن يفكروا بطرق العلاج التي يستخدمونها بطريقة ناقدة1، وقد أصاب الهدف برميته تلك، حيث انتقل الجدل من الأوساط الطبية إلى العلن ليصبح على مسمع الجميع بعد أن كان محصوراً في الدوائر الأكاديمية. وما لبث جراح أمريكي آخر هو برنارد فيشر أن قام مع زملاء له من تخصصات أخرى بابتكار سلسلة من التجارب الصارمة لدراسة بيولوجية السرطان، فأوحت نتائج دراساتهم بأنه يمكن فعلاً لخلايا السرطان أن تسرح في مجرى الدم حتى قبل اكتشاف السرطان البدئي؛ مما يعني أن الجراحات الجائرة لم تعد مبررة بسبب انتشار السرطان مسبقاً في مواضع أخرى من الجسم

بينما استخدم كرايل حكمته السريرية للنصح بتطبيق معالجات موضعية أقل تطرفاً، تعاون فيشر مع مجموعة متنامية من الباحثين على مقاربة أكثر منهجيةً وأكثر صرامةً؛ فقد سعوا إلى إثبات أو نقض قيمة الجراحة المتطرفة باستخدام أفضل طرق الفحص غير المنحازة (العادلة)، ألا وهي التجربة المعشاة؛ فقد اعتقدوا أن مثل تلك التجربة هي الفيصل الذي سيقدم جواباً مقنعاً للوسط الطبي وللجماهير، وصرح فيشر بجرأة عام 1971 بأن الجراحين مُلزَمين أخلاقياً ومعنوياً بفحص فرضياتهم عن طريق إخضاعها لتجارب معشاة (أي ذات توزيع عشوائي أو معشى للمرضى على مجموعتي المقارنة)، وبالتأكيد، فقد بَيَّنَ فيشر في تجارب متابعة استمرت عشرين سنة أن نتائج معالجة سرطان الثدي بجراحة الكتلة متبوعةً بمعالجة شعاعية تعادل في تأثيرها على خطر الوفاة المبكر تأثير استئصال الثدي الجذري[2]

أجريت في نفس الوقت تجارب معشاة من قبل باحثين يعملون في دول مختلفة لمقارنة استئصال الثدي الجذري التقليدي بمعالجة تحافظ على الثدي، ومنهم مثلاً مجموعة هدلي أتكينز في المملكة المتحدة في مطلع الستينيات، ولاحقاً مجموعة فيرونيسي في ايطاليا. أكدت الصورة الاجمالية نتائج فيشر؛ فلم يكن هناك برهان على أن استئصال الثدي الجذري أسفر عن بُقْيَا أطول حتى بعد عشرين عاماً من المتابعة[3]، كما أجريت تجارب معشاة أخرى في السويد وإيطاليا إضافةً إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة للمقارنة بين العديد من طرق المعالجة الأخرى؛ مثل مقارنة الجراحة فقط بالجراحة متبوعةً بعلاج شعاعي، ومقارنة العلاج الكيماوي طويل الأمد بالعلاج الكيماوي قصير الأمد.

اجمالاً، دعمت نتائج هذه الدراسات المبكرة ونتائج دراسات مخبرية مفصلة نظرية أن سرطان الثدي هو في الحقيقة مرض جهازي، مع انتشار الخلايا السرطانية عبر مجرى الدم قبل أن تصبح كتلة الثدي قابلةً للكشف[4]، وتزايد حول العالم عدد الأطباء المقتنعين بالبراهين المتعاظمة على أن أذى الجراحة الجذرية يفوق فوائدها، وبدأت مواقف المرضى وعامة الشعب بالتبدل أيضاً في العقود الأخيرة من القرن العشرين فشكل عمل بعض المريضات الناشطات مثل روز كشنر في الولايات المتحدة وفي بلدان أخرى حول العالم رأس حربة لتشكيل جماعات مرضى أكثر استنارةً ومعرفةً في تحديهم لمقاربة “المزيد أفضل” الجراحية ولما رافقها عادةً من أَبَوِيَّة طبيّة. تحدى هذا النشاط المنتشر لكل من المريضات والمهنيين الصحيين المبالغات الجراحية القديمة في كل مكان تقريباً، ولكن، صَدِّق أو لا تُصَدِّق، مازالت جراحة الثدي المشوهة وغير الضرورية تُجْرى؛ فقد أجريت في اليابان مثلاً أكثر من 150 عملية ثدي جذرية في العام 2003 [5].

أنتجت تجارب كافة مناحي معالجة سرطان الثدي بحلول العام 1985 حجماً هائلاً من النتائج التي بات من العسير جداً على الأطباء متابعتها لتحديث معارفهم بشكل مقبول، ولمواجهة هذه المشكلة قام ريتشارد بيتو وزملاءه في اوكسفورد بدمج نتائج كل تلك التجارب في أول مراجعة منهجية لكل المعلومات المجموعة من كل النساء المشاركات في كافة التجارب[6]، ثم صارت المرجعات المنهجية لمعالجات سرطان الثدي تُحَدَّثْ وتُنْشَر بشكل منتظم[7, 8].